عِشْ حمارًا ..ياسيدي !!
كان موقفا يدعو للتامل فحين دخلت الكهرباء إلى القرية لم يعد للحمار داع . فوسيلة نقل الماء تطورت وأصبحت تتم عن طريق المضخات والأنابيب التي غدت شرايين الحياة في قلب المدينة العتيقة ..وتم الاستغناء عن الحمار ليأتي صاحب البيت ذات يوم ويأخذ القرار صارخا في حدة : بره يا حمااار !
لكن الحمار الوفي كان يعود في كل مرة ويقف على باب البيت ، وأهل الدار يسأمون الحال فكلما فتحوا الباب وجدوه يقف عنيداً لذا كان يجب اتخاذ القرار الحاسم !
قام صاحب البيت بجذب الحمار الأصيل رفيق الأيام الصعبة من رقبته ، ومضى به إلى أعالي المدينة حيث لا أحد ، وابتعد أربع خطوات للوراء ، ثم أخرج مسدسه وأطلق رصاصات صائبة صرعت الحمار الغلبان ولأن ((ابن الوز عوام)) فما كان من الصبي إلا أن أصر على أبيه أن يسدد رصاصة هو الآخر ووافق الأب فورا ، ليقترب الطفل سعيدا ويعتلي جثة الحمار الذي كان ينازع بين الحياة والموت ، وأطلق الرصاصة ..رصاصته الثانية استقرت في العين اليسرى لتنزف الدم بغزارة ، أما العين الأخرى فقد كانت تدمع وبشدة !
لم يكن للحمار ذنب سوى وفائه بعد أن استوحش الوحدة والحياة بلا أسرته من بني البشر ، وما استطاع أن يطيق العيش من دون أصحاب الدار ..دفع المغفل ثمن وفائه !
قصة تمتلئ فصولها دماً ودموعاً ، قصة تلخص أحاسيس بني البشر لقطة حزينة كما وصفها لنا الروائي عبدالرحمن منيف لكن لم يخبرنا عن مصير طفل الأمس وإذا ماكان هو ذاته الذي أصبح رب أسرة اليوم ؟!!
ولكنه يخبرنا في مقال آخر عن رب الأسرة الذي هدد أم ابنتيه بان يهجرها بعد أن ملّ إنجابها للبنات وأقسم بأن يُلقي بالأبنة الثالثة في حاوية القمامة إن أتت بنتاً وتنجب الأم وتكون أنثى ويبر الرجل الوفي بوعده ويلقي بالرضيعة في حاويته التي أخبر عنها ..وتمر السنون وتدور الدوائر ويعيش الأب في كنف أبناء قُساة يذيقونه من المرارة ما لذّ وطاب ..فما كان له صدرٌ حنون إلا ابنة القمامة . التي حفظها الله لتكون السند والظهر وسط ألف شاب عاق .
والحالة الأخرى التي يحكي عنها أحد أطباء التجميل فكانت لزوج وفيّ جداً فبعد سنين طويلة وعشرة عشر سنوات وأولاد ومشوار عمر..بدلآ من أن تندمج روحه بها أصبح يبصق عليها ويعايرها بترهلات جسمها وبكبرها فكأن العجز والكبر صابها وحدها دونه .
قاتل حمار الامس هو ذاته الأب الجائر ..هو من ألقى برضيعة لاذنب لها في جوف القمامة ..تلك الوجوه حولنا يعيشون وسطنا بلا إحساس هم النسخة المطوره من الأعرابي الذي كان لايقبل أبناءه واستنكر على رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم تقبيله لهم ..وماذا نفعل إذا نُزعت الرحمة من قلوبكم !! إنه ألم الغدر إنه قتلنا للوفاء .
لاتزال دمعة الحمار الذي ينازع تقبع في المخيلة ..لايزال صوت الطفلة والوحش المتخفي في رداء اب الذي ألقاها لقمة سائغة فريسة لكلاب الشوارع المسعورة وصمة عار ومازالت دموع الزوجة التي تشكو كرامتها وعمرها تنزف بعنف
ليس ألم الرصاصة ولا سكرات الموت ولا اللعاب النتن الذي أصابته عفونة الغدر أو عقوق الأب إنها طعنة من أقرب الناس وفي صميم القلب .
كم من حمار بيننا لكن مكانته عند الله تفوق علية القوم !! وكم من حمار يحتاج أن يعيش في زريبة عله يُقدر معنى الآدمية المفقودة التي أرادها رب كريم لعباده بلا ظلم وتجبر .