صنفان من الناس كل منهما نقيضللآخر. وبين الظاهر والباطن قد يلتبس الأمر على الإنسان، لهذا يقدم القرآنالكريم تصويراً مُعجِزاً يحدد صفات كل صنف. وهذا ما يحدثنا عنه هذا المقال.
قال الله تعالى: ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهدالله على ما في قلبه وهو ألد الخصام. وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيهاويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد. وإذا قيل له اتق الله أخذتهالعزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد. ومن الناس من يشري نفسه ابتغاءمرضاة الله والله رءوف بالعباد(سورة البقرة: الآيات 204- 207).
مقارنة بين فريقين
في هذه الآيات الكريمة تصوير معجز لحال صنفين من الناس. أولهما: يمثلالأشرار الخاسرين، وثانيهما: يمثل الأخيار المفلحين ومن عادة القرآنالكريم أنه ما تكلم عن الفجار وسوء عاقبتهم، إلا وأتبع ذلك بالحديث عنالأبرار وحسن مصيرهم، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن اللهلسميع عليم.
وهذه المقارنة بين حال الفريقين تراها في مئات الآيات القرآنية، ومنذلك قوله- تعالى- فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا. فإن الجحيم هي المأوى.وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. فإن الجنة هي المأوى.
وقوله- سبحانه-: وجوه يومئذ مسفرة. ضاحكة مستبشرة. ووجوه يومئذ عليها غبرة. ترهقها قترة. أولئك هم الكفرة الفجرة.
وقوله- عز وجل-: إن الأبرار لفي نعيم. وإن الفجار لفي جحيم.
إلى غير ذلك من الآيات القرآنية الكثيرة التي جمعت في حديثها بين حالالجاحدين وحال الشاكرين، وسوء عاقبة من كفر، وحسن عاقبة من آمن وعمل صالحا.
وللمنافقين صفات
والآيات التي معنا وصفت الصنف الأول بخمس صفات: الصفة الأولى حكاها-سبحانه- في قوله: ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا.
وقوله: "يعجبك": من الإعجاب بمعنى الاستحسان. تقول: أعجبني هذا الشيء، أي: استحسنته وعظم في نفسي.
والمعنى: ومن الناس قوم يروقك منطقهم، ويعجبك بيانهم، ويحسن عندكمقالهم، فأنت معجب بكلامهم الحلو الظاهر، المر الباطن، لأنك في هذه الحياةالدنيا تحكم على الناس بظواهرهم، أما بواطنهم فلا يعلمها إلا الله تعالى،وهو- سبحانه- في الآخرة سيكشف عن سرائرهم الخبيثة، وسيفضحهم على رءوسالأشهاد، وسيظهر ما كان خافيا على الناس من أمرهم في الدنيا.
والصفة الثانية من صفات هذا النوع المنافق من الناس، بينها القرآن في قوله: ويشهد الله على ما في قلبه.
أي: ويقرن معسول قوله، وظاهر تودده، بإشهاد الله- تعالى- على أن ما في قلبه، مطابق لما يجري على لسانه.
وكأن هذا النوع المنافق الذي يظهر خلاف ما يبطن، قد رأى من الناستشككا في قوله، وارتيابا في سلوكه، لأن من عادة المنافقين، أن يبدو منفلتات لسانهم، ما يدل على ما هو مخبوء في نفوسهم، فيأخذ الواحد منهم فيتوثيق قوله بالأيمان الباطلة، بأن يقول لمن ارتاب في صدق قوله: الله يشهدأني صادق فيما أقول.
فالمراد بإشهاد الله: الحلف به- سبحانه- أن ما في قلبه موافق لماينطق به لسانه. ولقد فضح الله- تعالى- هؤلاء المنافقين في آيات كثيرة،منها: قوله- سبحانه- إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله واللهيعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون. اتخذوا أيمانهم جُنّةفصدوا في سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون. ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروافطُبع على قلوبهم فهم لا يفقهون.
ثم بين- سبحانه- الصفة الثالثة من صفات هذا الصنف من الناس فقال: وهو ألد الخصام.
والألد: هو الإنسان الشديد الجدال والعداوة. وفي صحيح مسلم عن عائشة-رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: إن أبغض الرجالإلى الله الألد الخَصِم.
أي: أن هذا النوع من الناس، يثير الإعجاب بحسن بيانه، ويضللهم بحلاوةلسانه، ويحلف الأيمان المغلظة، أنه لا يقول إلا الصدق، ويجادل عما قولهبالباطل بقوة وعنف ومغالبة، فهو بعيد عن طباع المؤمنين، الذين إذا قالواصدقوا، وإذا عاهدوا وفوا، إذا جادلوا اتبعوا أحسن الطرق وأهداها.
ثم وصف- سبحانه- هذا الصنف المنافق بصفة رابعة فقال: وإذا تولى سعىفي الأرض ليفسد فيها يهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد.
ولفظ "تولى" من التولي بمعنى الإدبار والانصراف عن الشيء. و"سعى" منالسعي، وهو المشي الذي فيه شيء من السرعة والعجلة. وهو هنا مستعار للسرعةفي إيقاع الفتنة والتخريب. والفساد: خروج الشيء عن حدود الاعتدال والصلاح،سواء أكان هذا الخروج قليلا أم كثيرا. والحرث: مصدر حرث. أي: إثارة الأرضوتقليبها لإعدادها للزراعة، والمراد به هنا: ما نتج عن ذلك من زروع وثمار.
والنسل- كما يقول القرطبي-: ما خرج من أنثى من ولد سواء أكان ذكرا أمأنثى. والمعنى: وإذا أعرض عنك هذا النوع من الناس وولاك ظهره، أسرع فيالإفساد بين الناس وتفريق كلمتهم، وإتلاف ما يقع تحت يده من الزروعوالثمار والحيوان، وما به قوام الحياة والأحياء.
فإهلاك الحرث والنسل كناية عن إتلافه لما به قوام معيشة الناس، وعنإيذائه الشديد لهم. وقوله - تعالى-: والله لا يحب الفسادتذييل قصد بهالتحذير والترهيب لهؤلاء المصرين على إجرامهم وإفسادهم في الأرض.
أي: والله- تعالى- لا يحب الذي يفسد في الأرض، ويعمل على إشاعةالفحشاء والخراب والدمار فيها، ولكن يحب الذين يعمرونها ويصلحونها،ويتبادلون المنافع التي أحلها الله فيما بينهم، وبذلك ترقى الأمم وتتقدموتسعد، ويظلها الأمان والاطمئنان والاستقرار.
أما الصفة الخامسة لهذا النوع من الناس، فهي قوله - سبحانه-: وإذاقيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد.
أي: وإذا قيل لهذا المنافق المغرور على سبيل النصح والإرشاد: اتقالله، واترك ما أنت فيه من نفاق وخداع وخروج عن طاعة الله- تعالى-، استولتعليه العزة- أي: حمية الجاهلية- مقترنة بالإثم ومصاحبة له، فهي ليست العزةالمحمودة، ولكنها الكبرياء المبغوضة، فالمراد بالعزة هنا: حمية الجاهليةالتي تحمل صاحبها على العناد والغرور والغباء.... أي: استولت عليه حميةالجاهلية، بسبب انطماس البصيرة، وسوء التفكير، واستحواذ الشيطان على قلبه،فأنساه كل ما يوصل إلى الصلاح والاستقامة. و"أل" في لفظ "العزة" للعهد.أي: العزة المعهودة المعروفة عند أهل الجاهلية، التي تمنع صاحبها من قبولالنصيحة.
وقوله- سبحانه-: فحسبه جهنم ولبئس المهاد بيان لسوء عاقبة من هذهصفاته. أي: إذا كانت هذه هي حالة المعرض عن النصح أنفة وغرورا وتكبرا،فكافيه جنهم جزاء له، ولبئس المهاد، أي: الفراش الذي يستقر على جهنم، بسببفجوره وفسوقه عن أمر ربه.
والتعبير عن جهنم بالمهاد الذي هو المكان المهيأ للنوم: من باب التهكم والاستهزاء بهذا النوع المغرور من الناس.
نماذج من المنافقين
هذا، وقد أورد المفسرون روايات في سبب نزول هذه الآيات، منها: أنها-نزلت في رجل يدعى الأخنس بن شريق الثقفي، هذا الرجل أقبل على النبي- صلىالله عليه وسلم-، فأظهر الإسلام، وزعم أنه يحبه، وأقسم بالله على ذلك، إلاأن هذا الرجل كان منافقا خبيث الباطن، فإنه حين خرج من عند النبي- صلىالله عليه وسلم- مرّ بزرع لبعض المسلمين، فأحرقه وقتل بعض الحيوانات،فنزلت في شأنه هذه الآيات.
ومن المعروف عند أهل العلم: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.فكل من انطبقت عليه هذه الصفات، تحققت بشأنه هذه الآيات.
ونحن نرى في زمننا هذا أنظمة فاسدة، قادها أفراد تنطبق عليهم هذهالصفات كل الانطباق، فهم ألسنتهم خلابة، وقلوبهم فاسدة، وبواطنهم غادرة،وإفسادهم لم يكن في الأرض وحدها، بل كان لا الأرض، وفي الجو، وفي البحر،وفي كل بقعة وصلوا إليها، فهم قد أحرقوا آبار البترول التي تأتي بالخيرللناس، ولوثوا مياه البحار بما وضعوه فيها من سموم، وأفسدوا الهواء النقيبدخان أسلحتهم الغادرة، ولم يستمعوا إلى نصح الناصحين، بل أخذتهم العزةبالإثم، فكان مصيرهم بسبب بغيهم وغدرهم: الهزيمة الماحقة التي أتت علىبنيانهم من القواعد، والتي أدت بأمتهم إلى الخذلان والخسران، وذلك جزاءالمنافقين الظالمين الماكرين.
وصدق الله إذ يقول: ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون. فانظركيف كان عاقبة مكرهم أنّا دمرناهم وقومهم أجمعين. فتلك بيوتهم خاوية بماظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون(سورة النمل: الآيات 50- 52).
نوع آخر من الناس
وإذا ما تركنا هذا الصنف المنافق من الناس، واتجهنا إلى الصنف الآخر،رأينا الإيمان الصادق في أسمى صوره، ورأينا الإخلاص لدعوة الحق في أسمىألوانها، ورأينا التضحية من أجل إعلاء كلمة الله- تعالى- في أنقى مظاهرهاوأصفاها. استمع إلى القرآن الكريم وهو يصف لنا هذا الصنف الثاني من الناسفيقول. ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعبادومعنى "يشري نفسه": يبيعها ويبذلها في طاعة الله وإعلاء كلمته.
وتحقيق ذلك: أن المكلف قد بذل نفسه، بمعنى أنه أطاع الله- تعالى-،وحافظ على فرائضه، وجاهد في سبيله، من أجل أن ينال ثواب الله- تعالى-ومرضاته، فكان ما بذله من طاعات بمثابة السلعة، وكان هو بمنزلة البائع،وكان قبول الله- تعالى- منه ذلك وإثابته عليه في معنى الشراء.
وقوله: ابتغاء مرضاة الله: الابتغاء معناه الطلب الشديد للشيء، والرغبة القوية في الحصول عليه.
أي: ومن الناس نوع آخر يخالف النوع السابق، لأنه قد باع نفسه وبذلها في طاعة الله، طلبا لرضوانه، وأملا في مثوبته وغفرانه.
فهذا النوع التقي المخلص من الناس، يقابل النوع المنافق المفسد الذيسبق الحديث عنه. ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: والله رءوف بالعبادأي: رفيقبهم، ومن مظاهر ذلك أنه لم يكلفهم بشيء فوق طاقتهم، بل كلفهم بما هو فيمقدورهم من أفعال، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، مع تقصيرهم فيما أمرهمبه أو نهاهم عنه.
هذا، وقد أورد المفسرون روايات متعددة، في سبب نزول هذه الآية، منها:أنها نزلت في شأن صهيب بن سنان الرومي- رضي الله عنه-، وذلك أنه بعد أنأسلم بمكة، وعاش بها زمنا، أراد أن يهاجر إلى المدينة المنورة، بعد أنهاجر إليها النبي- صلى الله عليه وسلم - وكثير من أصحابه. فمنعه المشركونمن ذلك، وقالوا له: لقد جئت إلينا صعلوكا فقيرا، وأنت قد أصبحت منالأغنياء بيننا، فإن شئت الهجرة فاترك لنا أموالك التي جمعتها خلال إقامتكبيننا.
فلما رأى تصميمهم على ذلك أعطاهم أمواله، ابتغاء السماح له بالهجرة،فنزلت في شأنه هذه الآية الكريمة: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاةالله والله رءوف بالعباد. وعندما قرأها النبي- صلى الله عليه وسلم- علىأصحابه، وأخبرهم بأن صهيبا في طريقه إليهم مهاجرا من مكة إلى المدينة، خرجعمر بن الخطاب- رضي الله عنه- ليستقبله خارج المدينة، فلما التقى به قالله: "ربح البيع يا صهيب"، فقال له: وأنتم لا أخسر الله تجارتكم، وماذاك؟فقال له عمر: لقد أنزل الله في شأنك قرآنا يتلى، وقرأ عليه هذه الآية.
وبذلك نرى أن القرآن الكريم قد بيّن لنا في هذه الآيات الكريمة صنفينمن الناس: صنفا منافقا خاسرا، وآخر تقيا رابحا، لكي نتبع طريق المتقينالرابحين، ونهجر طريق المنافقين الخاسرين ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلىالله المصير.
نسأل الله- تعالى- أن يرينا الحق حقا وأن يرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا وأن يرزقنا اجتنابه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
محمد سيد طنطاوي